الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011

أَفْضَـلُ أَيَّـامِ الدُّنْيَـا




أَفْضَـلُ أَيَّـامِ الدُّنْيَـا



    ها نحن على مشارف موسم عظيم من مواسم البر والطاعات، إنه موسم من مواسم الخير والمغفرة, أيام تضاعف فيها الحسنات، وتتنزل فيها الرّحمات، وتقال فيها العثرات .
     إنه موسم أيامه معلومة، ولياليه معدودة، لكنها عظيمة الفضل، كثيرة الأجر، عليّة المكانة، جليلة المنزلة، إنه موسم شرفه وعظمته بتشريف الله وتعظيمه له، أقسم الله تبارك وتعالى به في كتابه، وعظّم شأنه، ورفع مكانته، وأعلى منزلته، فقال سبحانه وتعالى:{ وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ }[الفجر:1-2]، إنها الأيام المعلومات التي ذكرها الله في قوله:{ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }[الحج:28].
    إنها العشر الأول من ذي الحجة؛ أفضل أيام الدنيا، روى البزار في مسنده وصححه الألباني عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَفْضَلُ أَيَّامِ الْدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ، يَعْنِي عَشْرُ ذِي الحْجَّةِ "، قرنها الله تبارك وتعالى في قسمه بها بأفضل الأوقات، فقال سبحانه:{ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ }[الفجر:1ـ5]، قرنها سبحانه بالفجر، وبالشفع والوتر، وبالليل إذا يسر، والقرين بالمقارن يقتدي، أما اقترانها بالفجر فلأنه متنفس الحياة، بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، ويتنفس الصبح بعد عسعسة الليل، وتنفلق الأنوار بعد غشيان الظلام الدّامس، وتدبّ الحركة بعد السكون والركود، وقت الفجر تجتمع فيه الملائكة:{ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا }[الإسراء:78]، وقت الفجر به يتميز أهل الإيمان من أهل النفاق، ويكفي الفجر شرفاً وفخراً أنه أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي، إذ ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل نزولا يليق بجلاله وعظمته. وأما اقترانها بالشفع والوتر فلأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر، أو أن الشفع هو المخلوقات جميعها، والوتر هو الله تبارك وتعالى وحده، وحتى العشر فيها شفع ووتر، فالشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة. وأما اقترانها بالليل فلفضله وشرفه، فقد ذكر في القرآن أكثر من النهار، وقدم عليه أكثر من سبعين مرة، إنه أفضل وقت لنافلة الصلاة، وقيام المؤمن فيه بين يدي ربه شرف له، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء ومغفرة الذنوب:" هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ".
      إنها أفضل أيام الدنيا لأنها تجتمع فيها أمهات العبادات، فليس أيام يمكن فيها اجتماع أمهات العبادات سواها، ففيها تجتمع الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وقيام الليل وذكر الله والدعاء، والإنفاق، والجهاد في سبيل الله، والشفقة بالمحتاجين والضعفاء، والرحمة بالمساكين والفقراء، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وغير ذلك من أنواع العبادات، فهذه العبادات وغيرها لا يمكن أن تجدها مجتمعة إلا في هذه الأيام، ولذلك كانت هذه الأيام أفضل أيام الدنيا.
   إنها أفضل أيام الدنيا؛ العمل الصالح فيها أفضل منه في غيرها، ففي الصحيح من حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: "ما الْعَمَلُ في أَيَّامِ العشرِ أَفْضَلُ من العمل في هذه، قالوا: ولا الْجِهَادُ؟ قال: ولا الْجِهَادُ إلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ بِشَيْءٍ" رواه البخاري. وفي لفظ لأبي داود وأحمد في المسند: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيْهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوْا: يَا رَسُولَ الله، وَلَا الْجِهَادُ فِيْ سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِيْ سَبِيلِ اللهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " وفي رواية للدارمي:" مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِيْ عَشْرِ الْأَضْحَى " فالنبي صلى الله عليه وسلم يرغبنا ويحثنا على العمل الصالح في هذه الأيام، إذ العمل فيها يشرف ويفضل عن العمل في غيرها؛ وهو لأهل الأمصار بشرف الزمان ولحجاج بيت الله الحرام بشرف الزمان والمكان.
     أفضل أيام الدنيا لأن فيها يوم عرفة اليوم المشهود الذي يتنزل الله عشيته فيباهي بأهل الموقف ملائكته، ويقول سبحانه:" انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِّينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ "، إنه يوم العتق من النيران:" فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ "، يوم عرفة يوم الابتهال والدعاء، فـ:"ـخَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ"، يوم عرفة صيامه لغير الحاج؛ يقول صلى الله عليه وسلم:" أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِيْ قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِيْ بَعْدَهُ ".
    أفضل أيام الدنيا لأن فيها أعظم الأيام عند الله، يوم النحر، اليوم العاشر، يوم عيد الأضحى المبارك، يوم الحج الأكبر، فيه معظم أعمال الحج من رمي الجمار، وحلق الرأس أو التخفيف، وذبح الهدي، والطواف، والسعي، وصلاة العيد، وذبح الأضحية.
    أفضل أيام الدنيا لأنها الأعظم عند الله والأحب إليه من غيرها، ثوانيها ودقائقها، لحظاتها وساعاتها، لياليها وأيامها، عند أحمد في المسند والبيهقي في الشعب بسند صحيح من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ الله وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ فِيهِنَّ الْعَمَلُ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ: الْعَشْرِ -أي عَشْر ذِي الحجة- فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّسْبِيْحِ, وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ "، إنها أيام الإكثار من التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد تعظيماً لله وتمجيداً، وتنزيهاً له وتوحيداً، ولذلك كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا.
    إنها أفضل أيام الدنيا لأن الله سبحانه أكمل لنا فيها الدين وأتم علينا فيها النعمة:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }[المائدة:3]، فُتِحَت قلوبٌ غلفاً، وأُبْصِرَتْ أَعيُنٌ عُمياً، وسَمِعَت آذانٌ صُمّاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وظهر الإسلام ديناً يلوح في آفاق المعمورة، وارتفعت منارته في سماء الكون:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }[الفتح:28]، لقد بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
    إنها أيام فاضلة، وليال شريفة، ودقائق مباركة وساعات عامرة بذكر الله وشكره، فنحن مدعوون فيها إلى تلمّس رحمة الله والسعي إلى مرضاته وفضله، والتعرّض لنفحاته ومنحه وعطاياه سبحانه وتعالى.
    هذه نبذة لطيفة وإطلالة سريعة على تلك الأيام المباركات الفاضلات تستنفر الهمم وتنفض غبار الغفلة، إننا أحوج ما نكون في هذه العشر إلى المبادرة بطاعة الرحيم الرحمن والمسارعة إلى رضا الكريم المنان، والتخلق فيها بأخلاق القرآن، والابتعاد فيها كل البعد عن سبل الشيطان، وهذا ينبغي أن يكون ديدناً للعبد في سائر الأزمان، لكنه في أشرفها وأعظمها وأجلها وأفضلها كهذه الأيام العشر ينبغي أن يكون أكثر جدّاً واجتهاداً، فشمروا وبادروا، وسارعوا وسابقوا، واصبروا وصابروا، واجتهدوا ونافسوا:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }[الحديد:21]، { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }[آل عمران:133]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:26]، عظموا هذه الأيام بالمبادرة فيها إلى الخيرات، واقدروها حق قدرها كما عظمها الله تبارك تعالى وفضلها على سائر الأيام، أدُّوا فيها فرائض الله سبحانه، وعظّموا حرماته، وقفوا عند حدوده:{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ }[الحج:30]، { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ }[الحج:32]. فاتقوا الله ربكم، واستعدوا لما تستقبلونه من عشركم، واعلموا أن مشقة العمل الصالح وإن عظمت فإنها تزول ويبقى الثواب والأجر، ولذة المعصية والذنب وإن طالت فإنها تنتهي ويبقى العقاب والوزر، ومن الغبن والخسران أن تكون أفضل أيام الدنيا؛ هذه الأيام العشر المباركة عند الناس كسائر الأيام، فلا يعظّمونها كما عظّمها الله تعالى، ويغفلون عن قدرها ومنزلتها، ولا يخصونها بمزيد من البر والعمل الصالح والاجتهاد في عبادة الله، وفعل ما يرضيه ويقرّب منه سبحانه، فكيف بمن قضاها في البعد عن الله بارتكاب معاصيه أجارنا الله وعافانا، وجعلنا من أهل رحمته ومغفرته إنه سميع قريب مجيب.