الجمعة، 16 أغسطس 2013

عبر من الأحداث



عِبَرٌ مِنَ الأَحْدَاثِ
   



       
       أحداث جسام نازلة بأمة الإسلام، فتن كقطع الليل المظلم، فتن تدع الحليم حيرانا، فتن أخبر عن وقوعها صلى الله عليه وسلم، اجتماع على أمة الإسلام من الشرق والغرب، من الداخل والخارج، فأصبحت كقصعة تداع عليها الأكلة كما قال صلى الله عليه وسلم:" يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا . فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ "، وهذه الفتن المدلهمة والخطوب الجسيمة إنما لتصفي من السيل زبده، ليبقى في الأرض ما ينتفع به الناس، وأما زبده فيذهب جفاء كما أخبر ربنا تبارك وتعالى:{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ }، هذه الأحداث العظيمة التي أنزلت بأمة الإسلام وأثقلت كاهلها، إنما هي تمحيص ليميز الله بها الخبيث من الطيب، فكم في هذه الأحداث قد انكسرت أقنعة، وتقشعت عن وجوه أغطية، كانت الأمة تظن بأصحابها خيرا، وتؤمل فيهم نفعا، فبانت على حقيقتها، وظهر خبثها وانكشف عوارها وعداوتها، والمسلم في خضم هذه الأحداث لربما عاش في تيه وعاش في حيرة وهو يقول: أولسنا المسلمين ؟ أو لسنا الذين نقول لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه ؟ لماذا يحصل هذا ؟ وإلى متى سيظل هذا ؟ ومتى سيأتي نصر الله ؟ ويحل وعد الله ؟ ولتعلم عبد الله أن هذه الأحداث فيها لله حكم جليلة ، ولنا فيها عبر عظيمة ، وفوائد جمة :

أولها : أن ما قضي كان، وما سطر منتظر : فالله جل وعلا كل شيء عنده بمقدار، في حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه والنبي صلى الله عليه وسلم يربيه وهو غلام، ويعلمه وهو فتى صغير، يأخذ بأذنه يفركها ويقول له :" يَا غُلامُ ، إنِّي أعلّمُكَ كَلِمَاتٍ " كان من بين تلك الكلمات :" وَاعْلَمْ : أنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبكَ ، وَمَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ "، فالله عز وجل هو الذي قضي ويقدر، وهو الذي يأمر وينهى، ولا غالب لأمره، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه سبحانه جل في علاه .
       
       ومن عبر هذه الأحداث أن ما حدث ويحدث إنما حدث ويحدث بعلم الله، ووفق حكمة الله، فالله جل وعلا في كل قضاء له حكمة، وفي كل فعل وأمر له حكمة، علم ذلك من علم، وجهل ذلك من جهل، والعبد إنما يستسلم لله، وينقاد لأمر الله، ويعلم أن ما أصابه إنما هو من الله، وإن كان بسبب من نفسه .

       ومن عبر هذه الأحداث، أن الله عز وجل يريد بها أن تقطع أمة الإسلام علائقها وأسبابها بغير سببه جل علاه، وتخلص لما يعلقها به وحده سبحانه، فالسبب المنجي إنما هو سبب الله، السبب الذي يوصلنا بالله، والحبل الذي يعلقنا بالله، العلائق كلها التي تكون بغير الله نقطعها، والأسباب التي توصلنا بالله نبترها، هذه الخطوب والأحداث هذه من أجل عبرها وأعظم فوائدها، تربي النفوس، وتطهر الضمائر، فتربطها بالله جل في علاه، الذي لا يجيب المضطر سواه، ولا يكشف الكرب غيره جل في علاه:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} .

إليه وإلا لا تشد الركائب *** وعنه وإلا فالمحدث كاذب
وفيه وإلا فالغـــــرام مضيع *** ومنه وإلا فالمؤمـــل خـــــائب

فالمؤمل لا يؤمل إلا في الله، ولا يرفع أكفه إلا إلى الله، رضا بقضاء الله، وتسليما لقدر الله، إبراهيم عليه السلام يلقى في النار بالمنجنيق، حينها إلى من رفع أكفه ؟ بين يدي من بسط يديه ؟ أتاه جبريل عليه السلام وهو يقول له: يا إبراهيم يا خليل الله ألك حاجة ؟ فيقول إبراهيم عليه السلام: بعزة الموحد لله، وبثقة المؤمن بنصر الله، لأن نفسه مربوطة بالله، وقلبه معلق بالله، وكل سبب غير سبب الله قطع عند إبراهيم عليه السلام، فلم يبق إلا ما اتصل بالله، قال إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل، ونحن نقولها في زمن تكالبت علينا الأعداء داخليا وخارجيا: حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.

       ومن عبر وفوائد هذه الأحداث العظيمة التي هزت الأمة أن النصر عباد الله قريب وإن تأخر، النصر وعد من الله للمؤمنين متحقق في واقع الحياة لا نشك في ذلك وإن تأخر عن حساب البشر جميعا، لأن الله جل وعلا قد وعد، ووعده لا يتخلف سبحانه وتعالى:{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، رسول الله صلى الله عليه وسلم يكاد له ليخرج من مكة، بل ليقتل عليه الصلاة والسلام، يأتيه الوحي من الله أن الملأ اجتمعوا ليمكروا بك:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، لجأ إلى الغار صلى الله عليه وسلم، ومن يظن أن في الغار فرجا، ومن يظن أن الغار الضيق سعة، ومن يظن أن في كنف هذا الغار نصرا مبينا، وفتحا قريبا، يخرج به محمد صلى الله عليه وسلم لتتبعه الأمة، وينتشر دينه حتى يصل الصين شرقا، والمحيط الإطلنطي غربا، يجتمع كفار قريش على فوهة الغار، وأبو بكر رضي الله عنه ينظر إلى أقدامهم ويقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا، ورسول الله قلبه معلق بالله، وهو يقول لأبي بكر في ثقة بالله: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا، كم نحن في حاجة إلى أن نستشعر هذه المعاني العظيمة، لا تحزن إن الله معنا، والله الذي لا إله غيره لو اجتمعت قريش بأسرها وتبعها سائر الأحياء، بل وخرج الأموات من قبورهم يجرون أكفانهم خلف ذيولهم يريدون النيل من محمد صلى الله عليه وسلم حينها لما استطاعوا، لأن كان ثالث اثنين إنما هو الله جل في علاه .

       ومن عبر هذه الأحداث أن من كان مع الله وكان الله معه فمما يخاف ؟ من كان معه القوي فمما يخاف، من كان معه الغني مما يخاف ؟ من كان معه الجبار القوي المتكبر المتين مما يخاف ؟
ومن عبر هذه الأحداث وفوائدها عباد الله أن هذه الأحداث عرفتنا بحقيقة أنفسنا، وما أصابنا إنما هو بسبب من أنفسنا، { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}،{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، توبة إلى الله، ورجوعا إلى الله، وإنابة إلى الله، استكانة لله، وتذللا لله، وتضرعا لله، وخضوعا لله، وانطراحا بين يدي الله، حينها ينصرنا الله، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، النصر من الله وعد للمؤمنين، قد تنزل الملائكة مؤيدة للمؤمنين، وتهب الرياح العواتي، جندا من الله تأييدا للمؤمنين، غير أن النصر من الله لا يكون إلا للمؤمنين، وبالمؤمنين، { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
   
     واجب علينا عباد الله أن نعود إلى الله وأن نتوب إليه، وأن يتجرد الواحد منا لله، ويقطع علائقه جميعها إلا بالله، عل الله أن يرفع هذا البلاء الذي حل بالأمة، وهذه الأحداث المؤلمة والخطوب الجسيمة، { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }، فلا ملجأ لنا من الله إلا إلى الله .