ما أسرع مرور الأيام وانقضائها، وما أخف مضي
الشهور وانتهائها، نستقبل وجه النهار فإذا بنا قد غربت شمسه، ونستبشر بمطلع الشهر فإذا
بنا في آخره، وينقضي العام ونحن في غمرة استقباله !! لم نشعر إلا وقد أتى على
تمامه !! ها هو ذا رمضان بالأمس استقبلناه واليوم نودعه، انقضى شهر الفضل والإحسان،
شهر الرحمة والرضوان، شهر العفو والغفران، انقضى في لمح البصر، وسرعة البرق، انقضى
رمضان ...
ولكن
قد بقيت في هذا الشهر بقية، بقيت أفضل أيامه، وأجل لياليه، إنها العشر الأواخر، وقد
دخلت وولجنا فيها، هذه العشر الباب فيها للإقبال مُشْرَعٌ مفتوح، والخير يغدو
ويروح، إنها فرصة للإقبال واستدراك ما فات، فقد يسبق المتأخر المتقدم ويكفر عما
فات، أما آن لنا أن نستيقظ من سبات الغفلة، أما آن لنا أن نصحو من رقدة الهوى .
جرت السنون وقد
مضى العمر *** والقلـب لا شكـــرٌ ولا ذكــــرُ
والغفـلـــةُ الصمَّــاء
شــاهـــــرةٌ *** سيفــاً بـه يتصـــرَّم العُـمُــــرُ
حتـى متى يا قلـب
تغـــرق فـي *** لجـج الهـوى، إن الهوى بحـرُ
هـــا قـــد حبــــاك
الله مغفــــرةً *** طـرقـت رحابَــك هذه العشـرُ
ها
نحن ننيخ مطايانا بين يدَي هذه العَشر الأيام العظيمة، والليالي الفاضلة الكريمة، إنها
عشر جميمة بالخيرات، وعميمة بالمكرمات، الدنيا كل الدنيا عمها ضياؤها، وغمرها
بهاؤها وسناؤها، القلوب المغرمة بها حدا بها الشوق إليها، وقادها الحب إلى
اغتنماها والاجتهاد فيها، فاكتست بذلك من أنوارها، ومسها طيب نفحاتها وأسرارها،
إنها العشر التي جرَت فيها أنهار الطاعاتِ، وتفتّقت أزهارها عن أكمام المنح والبركات،
أيامُها مترعة بالبر والقرُبات، ولياليها بالاستغفار وتلاوة القرآن منيرات .
إنها
العشر الأواخر أخي الكريم؛ فيها تعظم النفحات، وتتنزل الرحمات، وتكثر الخيرات،
وتعم البركات جعلنا الله ممن نال تلك البركات والخيرات والرحمات والنفحات وحظي بها .
عشـرٌ وبـالحسنات كفُّــكِ تزخـــرُ *** والكــون في لألاءِ حُسنـــكِ مُبْحِــرُ
هتفت للقيــاكِ النفـــوسُ وأسرعت *** مـن حــوبـهــا بدمـوعهــا تستغفـــرُ
العشر الأواخر تقول عائشة أم المؤمنين رضي
الله عنها كما في الصحيحين كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت شدّ مئزره،
وأيقظ أهله، وأحيا ليله صلى الله عليه وسلم، وعند مسلم في صحيحه عنها رضي الله
عنها قالت: لقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهِد في رمضانَ ما لا يجتهِدُ في غيره،
ويجتهد في العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها، يجتهد في العبادة، وينشغل بالطاعة، ويتخلى عن
الدنيا وملذاتها، ونسائها، وشهواتها .
العشر الأواخر فيها أفضل ليالي الدنيا، فيها الليلة الشريفة الجليلة العظيمة؛ إنها الليلة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريها، إنها ليلة القدر، في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" تَحَرُّوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِيْ الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ "؛ وفي الصحيحين أيضا قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيْمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " . إنها ليلة الشرف والقدر:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، إنها الليلة التي من حرم خيرها فهو المحروم، ومن حاز خيرها فهو المرحوم جعلنا الله من عباده المرحومين .
العشر
الأواخر يشرع فيها الاعتكاف، فقد اعتكف صلى الله عليه وسلم يلتمس ليلة القدر
ويتحرّاها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، والاعتكاف لزوم
المسجد الجامع للتفرغ للعبادة، ينقطع المعتكف عما سوى الله ويأنس بالله، ينصرف عن
غير الله إلى الله، يعيش المعتكف أجمل اللحظات، وأغلى الساعات لأنه في راحة ما
بعدها راحة، ويعيش سعادة لا تعدلها سعادة:{الَّذِيْنَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
قَلَوبُهُمْ بِذْكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القَلَوبُ}، من
وجد الله ماذا فقد، ومن فقد الله ماذا وجد .
العشر
الأواخر فيها ينتصب عباد الله المتقون بين يدي الله إليه راغبون، وفيه يؤملون، ولما
عنده يطلبون، نهارهم تلاوة للقرآن وصيام، وليلهم استغفار وقيام، لقد جنوا الثمرة
من صيامهم قبل أن يكتمل شهرهم، إنها التقوى عباد الله التي يفعل المرء معها الطاعة
على نور من الله يرجو ثواب الله، ويترك المعصية على نور من الله يخاف عقاب الله،
قال الله سبحانه:{إِنَّ المُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا
آتَاهُم رَبُّهُم إِنَّهُم كَانُوا قَبلَ ذَلِكَ مُحسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً
مِنَ اللَّيلِ مَا يَهجَعُونَ * وَبِالأَسحَارِ هُم يَستَغفِرُونَ * وَفي
أَموَالِهِم حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ} .
عشــرٌ حباهـا إِله العـــرش مكرمـةً *** فيرحــم الله
من ضــاقت به السُبــلُ
هو الرؤوف بنا هل
خــاب ذو أمـل *** يدعـو رحيمًا بقلـب ذلَّــه الخجــــلُ
العشر
الأواخر فيها تقال عثرات، وتستجاب دعوات، فيها تجليات ونفحات، ومنح وأعطيات، فحري
بنا أن نغتنمها ونحن المقصرون، وجدير بنا أن نشمر فيها بالأعمال الصالحة ونحن
المذنبون، نقبل على ربنا ليغفر لنا، ويعتق رقابنا، فأين المتسابقون والمتنافسون
والمشمرون .
إنها والله لنعمة كبرى ومنحة عظمى أن مَنَّ
الله وتفضَل علينا، بأن مدَّ في أعمارنا، حتى بلغنا هذه الشهر العظيم، ومنَّ علينا
أخرى بأن بلغنا العشر الأواخر منه، وإن من تمام شكرنا لهذه النعمة أن نحمد الله
تبارك وتعالى وأن نغتنم هذه الأيام الفاضلة بالأعمال الصالحة، نغتنمها بفعل ما يقربنا
من الله سبحانه .
فيا
أيها الحبيب: جِدَّ في العمل، وأرِ اللهَ من نفسِك خيرًا، فإنَّ شَهركَ أوشكَ على
الرحيل، فإن كنت ممّنْ أحسنَ فعليك بالتَّمام، وإن كنت ممَّن فرَّطَ فعليك أن تخْتِمَ
بالحسنى، فالأعمال بالخواتيم، والعبرة بتمام النهايات لا بنقص البدايات، فالله
الله أخي في اللهِ شمّر عن ساعد الجد، ومن عزيمتك فشد، فأيامُك هذه نفيسة غالية، كريمة
فاضلة، ساعاتها ودقائقها، لحظاتها وثوانيها، هل تصدِّق أنَّ الدقيقةَ في ليلةِ
القدرِ تُسَاوِي سبعة وأربعينَ يوماً ؟ فجدَّ لتلحق بالسابقين، وشمّر لتدرك الجادّين،
وسارع لتسبق المتنافسين، واحذر أن ترضى لنفسك بالدّون، فتندم في ساعة لا ينفع فيها
ندم، ويا حسرة مَن عمرت لياليه وأيامه بما لا يقربه من ربه ومولاه، وانقضى عمره
ولسان حاله ما ذكر الله:{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} .
ترحــل الشهــرُ
والَهْفَــاهُ وانصرمـا *** واختص بالفوز
بالجنات من خدما
وأصبـح الغـافـل
المسكيـن منكسـراً *** مثلي فيـا ويحه يا عظـم ما حُـرِمـا
من فـاته الزرع في وقت البذار فما *** تـــراه يحصــد إلا الهــمَّ والنّـدمــا
طوبى لمن كانت التقـوى بضـاعتـه *** في شهـــره وبحبــل الله معتصمـا
من فـاته الزرع في وقت البذار فما *** تـــراه يحصــد إلا الهــمَّ والنّـدمــا
طوبى لمن كانت التقـوى بضـاعتـه *** في شهـــره وبحبــل الله معتصمـا
نسأل الله العفو والغفران، والرحمة والرضوان، والعتق من النيران، إنه الرحيم الرحمن، الكريم المنان .
0 التعليقات:
إرسال تعليق
علّق هنا