الجمعة، 1 نوفمبر 2013

رؤيا نبوية


رُؤْيـــَــــا نَــبَـــــوِيــَّـــةٌ



        عند البخاري في صحيحه عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ t قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لأَصْحَابِهِ:" هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا ؟ "- يجلس بعد صلاة الصبح فيقص الصحابة رضوان الله عليهم رؤاهم على إمام المعبرين ومعلم مفسري الأحلام الرسول الأعظم والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم فيعبرها لهم - قَالَ: فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ، وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ - أي بعد صلاة الصبح - :" إِنَّهُ أَتَانِيْ اللَّيْلَةَ آتِيَانِ - هما جبريل وميكائيل -، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِيْ - أي أيقظاه صلى الله عليه وسلم فيما يرى -، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِيْ انْطَلِقْ . وَإِنِّيْ انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا - وفي رواية: إِلَى الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ - وهذا فيه أن الإسراء وقع مراراً فكما وقع يقظة فقد وقع مناما - وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِيْ بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ – أي يشدخ رأسه ويكسره ويرضّه - فَيَتَهَدْهَدُ أو يَتَدَهْدَهُ الْحَجَرُ هَا هُنَا – أي يتدحرج -، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى . قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا هَذَانِ ؟ - ما هذا المنظر المخيف والمشهد المفزع - قَالَ: قَالاَ لِيْ: انْطَلِقْ انْطَلِقْ . قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ – مضطجع على ظهره -، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِيْ أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ – الجانب من الوجه - فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، - أي يشق ويقطع الجانب من فمه إلى قافية رأسه - وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، - صورة بشعة مؤلمة نسأل الله العفو والسلامة - ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ – أي الجانب الثاني - حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ – أي الجانب الأول يصح - كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى – يتكرر المشهد مرة بعد مرة، وأخرى تلو أخرى - . قَالَ: قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا هَذَانِ ؟ قَالَ: قَالاَ لِيْ: انْطَلِقْ انْطَلِقْ . فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ، فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ . قَالَ: فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا – أي ارتفعت أصواتهم مختلطة - . قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلاَءِ ؟ قَالَ: قَالاَ لِيْ: انْطَلِقِ انْطَلِقْ . قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِيْ النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِيْ ذَلِكَ الَّذِيْ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ، - يفتح له فاه،  يفغر يفتح وزنا ومعنى - فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا، - يلقي في فمه حجرا - فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا . قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ ؟ قَالَ: قَالاَ لِيْ: انْطَلِقِ انْطَلِقْ . قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ، - قبيح المنظر - كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلاً مَرْآةً، - لم تر رجلا بلغ قبحا في منظره كقبحه - وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا، - يوقدها ويشعلها - وَيَسْعَى حَوْلَهَا . قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا ؟ قَالَ: قَالاَ لِيْ: انْطَلِقِ انْطَلِقْ . فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ – جنة كثيرة الشجر الأخضر ولكثرة الخضرة صارت مائلة إلى العتمة وهي شدة الظلام - فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ – وسط هذه الجنة - رَجُلٌ طَوِيلٌ لاَ أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولاً فِيْ السَّمَاءِ، - لفرط طوله - وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ - أي ما رأيت ولدانا قط أكثر منهم -. قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا ؟ مَا هَؤُلاَءِ ؟ قَالَ: قَالاَ لِيْ: انْطَلِقِ انْطَلِقْ . قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ، لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلاَ أَحْسَنَ – جنة بلغت الغاية في الحسن والجمال - . قَالَ: قَالاَ لِيْ: ارْقَ فِيهَا – اصعد فيها -. قَالَ: فَارْتَقَيْنَا فِيهَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا، فَفُتِحَ لَنَا، فَدَخَلْنَاهَا، فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ شَطْرٌ – أي نصف - مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ . قَالَ: قَالاَ لَهُمُ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِيْ ذَلِكَ النَّهَرِ – أي انغمسوا فيه - . قَالَ: وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِيْ – يجري عرضا - كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِيْ الْبَيَاضِ، - يشبه بياضه بياض اللبن الخالص - فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ، - انغمسوا فيه - ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِيْ أَحْسَنِ صُورَةٍ – ذهب ما بهم من السوء واكتمل حسنهم فصاروا في أجمل خلق وأحسن صورة -. قَالَ: قَالاَ لِيْ: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ . قَالَ: فَسَمَا بَصَرِيْ صُعُدًا، - علا نظره مرتفعا إلى فوق - فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ – السحابة البارزة المنفردة البيضاء -. قَالَ: قَالاَ: هَذَاكَ مَنْزِلُكَ . قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا، ذَرَانِيْ فَأَدْخُلَهُ . قَالاَ: أَمَّا الآنَ فَلاَ ! وَأَنْتَ دَاخِلُهُ . – لأنه ما زال في عمره بقية يقضيه في دار الفناء فليس له الإقامة في دار البقاء قبل أن يستفرغ ما له من الأجل والرزق - قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: فَإِنِّيْ قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِيْ رَأَيْتُ ؟ قَالَ: قَالاَ لِيْ: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ، أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِيْ أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، - إن عذاب الله وعقوبته مترتب على القول والفعل إما فعلا أو تركا، وهذه صور لمشاهد من مشاهد العذاب في البرزخ، الرجل الأول يأخذ القرآن فيرفضه يتعلم وحي الله كتابا وسنة ثم يترك العمل به، هذا حال من آتاه الله آياته فانسلخ منها، حال من علم ولم يعمل بما علم، حال من يأمر الناس بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، نسأل الله العفو والسلامة - وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ،- أي ينام الصلاة المفروضة فيؤخرها إلى آخر وقتها أو حتى يخرج وقتها، وكم من المسلمين اليوم صلاة الفجر أمر ثانوي في حياتهم، ولربما غيرها من الصلوات أيضا لكن لما كانت الفجر بعد نوم واسترخاء أصبحت أمرا ثانويا عند البعض وصلاة الفجر أثقل الصلاة على المنافقين هي وصلاة العشاء، وهي من البردين الذين من صلاهما دخل الجنة؛ فالحذر الحذر من ضياع الصلوات وإخراجها عن أوقاتها فقد جعل الله الصلاة كتابا موقوتا، ومن العجب أن يهتم البعض بأوقات الدوامات والوظائف وهي مواقيت متعلقة بأوامر البشر، ويفرط ويضيع المواقيت التي تعلقت بأمر رب البشر سبحانه وتعالى، فهذا مشهد من مشاهد عذاب البرزخ وهو مثال على ترك الفعل المأمور به - وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِيْ أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، - وما أسهل هذا الأمر في ظل وسائل التواصل الحديثة من الواتسب والتويتر والفيس بوك ونحوها لربما يكذب الرجل الكذبة وهو خارج من بيته فلا يصل إلى مكان عمله إلا وقد بلغت مشارق الأرض ومغاربها نسأل الله العفو والسلامة، وهذا فيه أخذ الحيطة بالتثبت في النقل والحذر من ترويج الشائعات { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }[الحجرات:6] فالحذر كل الحذر من العجلة وعدم التأني والتمحيص في نقل الأخبار فما آفة الأخبار إلا رواتها، وهذا مشهد من مشاهد عذاب البرزخ وهو مثال على فعل القول المأمور بتركه - وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِيْ مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِيْ، - لما هتكوا ستر العورات فكشفوها عند من لا يحل له رؤيتها، وأقبلوا على ارتكاب هذه الفاحشة النكراء التي أمروا بمجانبتها وعدم القرب منها استحقوا أن تعذب أسافلهم فالجزاء من جنس العمل، وهذا مشهد من مشاهد عذاب البرزخ وهو مثال لفعل بدني مأمور بتركه - وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِيْ أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِيْ النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا، - مشهد من مشاهد عذاب البرزخ وهو مثال للوقوع في فعل مالي مأمور بتركه، إنه أكل الربا كبيرة من كبائر الذنوب فدرهم ربا أشد وأعظم عند الله من ستة وثلاثين زنية، الربا محاربة لله ورسوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ }[البقرة:278ـــ279]، وفي هذا الزمان شيدت صروح الربا وأعلي بنيانه محادة لله ورسوله فأصاب الأمة ما أصابها، وأصبحت كغثاء السيل ردها الله إليه ردا جميلا - وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِيْ عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ، - أعاذنا الله من جهنم- وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِيْ فِيْ الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ r، - أبو الأنبياء وخليل الرحمن عليه الصلاة والسلام - وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ . قَالَ: فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَأَوْلاَدُ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: وَأَوْلاَدُ الْمُشْرِكِينَ . – فكل مولود مات على الفطرة فهو في الجنة بحكم النبي صلى الله عليه وسلم - وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطَرٌ مِنْهُمْ قَبِيحًا، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ " – استوت حسناتهم وسيئاتهم فتجاوز الله عنهم وعفا عنهم ورحمهم برحمته التي تسع كل شيء فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فنسألك اللهم أن تتجاوز عنا وأن ترحمنا برحمتك - .

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

يوم عرفة


يَــــــــومُ عَـــــــرَفَــــــــــةَ




              هناك وقد كادت الشمس أن تَؤُوبَ؛ على صعيد عرفات وقف صلى الله عليه وسلم فقال لبلال رضي الله عنه : " يَا بِلَالُ أَنْصِتِ لِيَ النَّاسَ " فَقَامَ بِلَالٌ فَقَالَ : أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْصَتَ النَّاسُ، فَقَالَ :" مَعْشَرَ النَّاسِ : أَتَانِيْ جِبْرَائِيْلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفاً فَأَقْرَأَنِيْ مِنْ رَبِّيَ السَّلَامَ، وَقَالَ : إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ المَشْعَرِ، وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ " فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ! هَذَا لَنَا خَاصَّةً ؟ قَالَ : " هَذَا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : كَثُرَ خَيْرُ اللهِ وَطَابَ . صححه الألباني رحمه الله، وعند ابن ماجه وصححه الألباني رحمه الله أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال:" يَا بِلَالُ أَسْكِتِ النَّاسَ أَوْ أَنْصِتِ النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَطَوَّلَ عَلَيْكُمْ فِي جَمْعِكُمْ هَذَا فَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ؛ ادْفَعُوا بِاسْمِ اللَّهِ "، إنه اليوم الأغر الأزهر، يوم عرفة، يوم سكب العبرات، وإقالة العثرات، وتنزل الرحمات، ورفع الدرجات، وحط الخطيئات، وغفران السيئات .

       يوم عرفة يوم عظيم عظمه الله فأقسم به في كتابه فقال سبحانه:{وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:1ـــــ3] قال ابن عباس رضي الله عنهما : الليالي العشر عشر ذي الحجة، والشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة . ومن قسم الله به قوله سبحانه:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج:1ــــ3] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ : يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، وَالْمَشْهُودُ : يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَالشَّاهِدُ : يَوْمُ الْجُمُعَةِ " .

       يوم عرفة يوم أكمل الله لنا فيه الدين وأتم علينا فيه النعمة، ففي الصحيحين عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيداً. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ ؟ قَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِيْ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}. قَالَ عُمَرُ : قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِى نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ .

       يوم عرفة موسم عظيم، ومشهد فضل عميم، ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رئي يوم بدر، يوم عرفة تعتق فيه الرقاب من النار وتتنزل فيه رحمات العزيز الغفار فعند مسلم في صحيحه قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" مَا مِنْ يَومٍ أَكَثْرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيْهِ عَبْداً مِنَ النَّارِ مِنْ يَومِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيْدُنُو ثُمَّ يُبَاهِيْ بِهِمُ المَلَائِكَةَ فَيَقُولُ : مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ  ؟ " . يدنو سبحانه من عباده دُنُوّاً يليق بجلاله وكماله وعظيم سلطانه، فهو سبحانه يقرب من عباده الصالحين الذين يتقربون إليه بطاعته وفعل مرضاته .

       يوم عرفة يوم الرغبة والرجاء، يوم التذلل والدعاء، عند الترمذي وحسنه الألباني عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " إنه يوم عرفة يوم تلهج فيه الألسنة بالأذكار والأدعية، تضرع وبكاء، وابتهال ودعاء، تسبيح وتبجيل، وتكبير وتهليل، اختلفت الأجناس، وتباينت اللغات، وتنوعت اللهجات، الأسود والأبيض، والأحمر والأشقر، الإفريقي والأوربي، والآسيوي والأمريكي، العربي والإنجليزي، والباكستاني والأفغاني، والهندي والتركماني، كلهم يدعون ربا واحدا، ويسألون إلها واحدا، وهو سبحانه يجيب كل سائل عما سأل، ويعطي كل طالب ما طلب، فسبحانك ربي ما أجلك وأعظمك، وسبحانك ما أحلمك وأرحمك، وسبحانك ما أجودك وأكرمك .

       يوم عرفة اجتماع الحجيج فيه على صعيد واحد في مشهد عظيم، وموقف مهيب، بلباس واحد، الحاكم والمحكوم والأمير، والغني والفقير، فلا طبقية ولا مناطقية، ولا عرقية ولا قومية، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، كل ذلك مشعر بأخوة الإيمان، ورابطة الإسلام، وهو مذكر بيوم الرجوع إلى الله يوم الحساب ولا عمل، اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

       يوم عرفة خطب صلى الله عليه وسلم فيه فكان فيما قال:" إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ؛ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِى بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ؛ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ . فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ . وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّيْ فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ . فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ:" اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ". ثَلاَثَ مَرَّاتٍ .

       يوم عرفة الوقوف به ركن الحج الأعظم فالحج عرفة كما صح من قوله صلى الله عليه وسلم، وصيام يوم عرفة يكفر سنتين سنة ماضية وسنة مستقبلة كما جاء عند مسلم في صحيحه من أبي قتادة رضي الله عنه، فاحرصوا على صيامه، وأكثروا فيه من الدعاء والاستغفار .

       جعلنا الله ممن عتق فيه رقابهم من النار، وغفر لهم ورحمهم إنه العزيز الغفار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والحمد لله رب العالمين .

الجمعة، 16 أغسطس 2013

عبر من الأحداث



عِبَرٌ مِنَ الأَحْدَاثِ
   



       
       أحداث جسام نازلة بأمة الإسلام، فتن كقطع الليل المظلم، فتن تدع الحليم حيرانا، فتن أخبر عن وقوعها صلى الله عليه وسلم، اجتماع على أمة الإسلام من الشرق والغرب، من الداخل والخارج، فأصبحت كقصعة تداع عليها الأكلة كما قال صلى الله عليه وسلم:" يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا . فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ "، وهذه الفتن المدلهمة والخطوب الجسيمة إنما لتصفي من السيل زبده، ليبقى في الأرض ما ينتفع به الناس، وأما زبده فيذهب جفاء كما أخبر ربنا تبارك وتعالى:{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ }، هذه الأحداث العظيمة التي أنزلت بأمة الإسلام وأثقلت كاهلها، إنما هي تمحيص ليميز الله بها الخبيث من الطيب، فكم في هذه الأحداث قد انكسرت أقنعة، وتقشعت عن وجوه أغطية، كانت الأمة تظن بأصحابها خيرا، وتؤمل فيهم نفعا، فبانت على حقيقتها، وظهر خبثها وانكشف عوارها وعداوتها، والمسلم في خضم هذه الأحداث لربما عاش في تيه وعاش في حيرة وهو يقول: أولسنا المسلمين ؟ أو لسنا الذين نقول لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه ؟ لماذا يحصل هذا ؟ وإلى متى سيظل هذا ؟ ومتى سيأتي نصر الله ؟ ويحل وعد الله ؟ ولتعلم عبد الله أن هذه الأحداث فيها لله حكم جليلة ، ولنا فيها عبر عظيمة ، وفوائد جمة :

أولها : أن ما قضي كان، وما سطر منتظر : فالله جل وعلا كل شيء عنده بمقدار، في حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه والنبي صلى الله عليه وسلم يربيه وهو غلام، ويعلمه وهو فتى صغير، يأخذ بأذنه يفركها ويقول له :" يَا غُلامُ ، إنِّي أعلّمُكَ كَلِمَاتٍ " كان من بين تلك الكلمات :" وَاعْلَمْ : أنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبكَ ، وَمَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ "، فالله عز وجل هو الذي قضي ويقدر، وهو الذي يأمر وينهى، ولا غالب لأمره، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه سبحانه جل في علاه .
       
       ومن عبر هذه الأحداث أن ما حدث ويحدث إنما حدث ويحدث بعلم الله، ووفق حكمة الله، فالله جل وعلا في كل قضاء له حكمة، وفي كل فعل وأمر له حكمة، علم ذلك من علم، وجهل ذلك من جهل، والعبد إنما يستسلم لله، وينقاد لأمر الله، ويعلم أن ما أصابه إنما هو من الله، وإن كان بسبب من نفسه .

       ومن عبر هذه الأحداث، أن الله عز وجل يريد بها أن تقطع أمة الإسلام علائقها وأسبابها بغير سببه جل علاه، وتخلص لما يعلقها به وحده سبحانه، فالسبب المنجي إنما هو سبب الله، السبب الذي يوصلنا بالله، والحبل الذي يعلقنا بالله، العلائق كلها التي تكون بغير الله نقطعها، والأسباب التي توصلنا بالله نبترها، هذه الخطوب والأحداث هذه من أجل عبرها وأعظم فوائدها، تربي النفوس، وتطهر الضمائر، فتربطها بالله جل في علاه، الذي لا يجيب المضطر سواه، ولا يكشف الكرب غيره جل في علاه:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} .

إليه وإلا لا تشد الركائب *** وعنه وإلا فالمحدث كاذب
وفيه وإلا فالغـــــرام مضيع *** ومنه وإلا فالمؤمـــل خـــــائب

فالمؤمل لا يؤمل إلا في الله، ولا يرفع أكفه إلا إلى الله، رضا بقضاء الله، وتسليما لقدر الله، إبراهيم عليه السلام يلقى في النار بالمنجنيق، حينها إلى من رفع أكفه ؟ بين يدي من بسط يديه ؟ أتاه جبريل عليه السلام وهو يقول له: يا إبراهيم يا خليل الله ألك حاجة ؟ فيقول إبراهيم عليه السلام: بعزة الموحد لله، وبثقة المؤمن بنصر الله، لأن نفسه مربوطة بالله، وقلبه معلق بالله، وكل سبب غير سبب الله قطع عند إبراهيم عليه السلام، فلم يبق إلا ما اتصل بالله، قال إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل، ونحن نقولها في زمن تكالبت علينا الأعداء داخليا وخارجيا: حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.

       ومن عبر وفوائد هذه الأحداث العظيمة التي هزت الأمة أن النصر عباد الله قريب وإن تأخر، النصر وعد من الله للمؤمنين متحقق في واقع الحياة لا نشك في ذلك وإن تأخر عن حساب البشر جميعا، لأن الله جل وعلا قد وعد، ووعده لا يتخلف سبحانه وتعالى:{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، رسول الله صلى الله عليه وسلم يكاد له ليخرج من مكة، بل ليقتل عليه الصلاة والسلام، يأتيه الوحي من الله أن الملأ اجتمعوا ليمكروا بك:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، لجأ إلى الغار صلى الله عليه وسلم، ومن يظن أن في الغار فرجا، ومن يظن أن الغار الضيق سعة، ومن يظن أن في كنف هذا الغار نصرا مبينا، وفتحا قريبا، يخرج به محمد صلى الله عليه وسلم لتتبعه الأمة، وينتشر دينه حتى يصل الصين شرقا، والمحيط الإطلنطي غربا، يجتمع كفار قريش على فوهة الغار، وأبو بكر رضي الله عنه ينظر إلى أقدامهم ويقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا، ورسول الله قلبه معلق بالله، وهو يقول لأبي بكر في ثقة بالله: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا، كم نحن في حاجة إلى أن نستشعر هذه المعاني العظيمة، لا تحزن إن الله معنا، والله الذي لا إله غيره لو اجتمعت قريش بأسرها وتبعها سائر الأحياء، بل وخرج الأموات من قبورهم يجرون أكفانهم خلف ذيولهم يريدون النيل من محمد صلى الله عليه وسلم حينها لما استطاعوا، لأن كان ثالث اثنين إنما هو الله جل في علاه .

       ومن عبر هذه الأحداث أن من كان مع الله وكان الله معه فمما يخاف ؟ من كان معه القوي فمما يخاف، من كان معه الغني مما يخاف ؟ من كان معه الجبار القوي المتكبر المتين مما يخاف ؟
ومن عبر هذه الأحداث وفوائدها عباد الله أن هذه الأحداث عرفتنا بحقيقة أنفسنا، وما أصابنا إنما هو بسبب من أنفسنا، { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}،{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، توبة إلى الله، ورجوعا إلى الله، وإنابة إلى الله، استكانة لله، وتذللا لله، وتضرعا لله، وخضوعا لله، وانطراحا بين يدي الله، حينها ينصرنا الله، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، النصر من الله وعد للمؤمنين، قد تنزل الملائكة مؤيدة للمؤمنين، وتهب الرياح العواتي، جندا من الله تأييدا للمؤمنين، غير أن النصر من الله لا يكون إلا للمؤمنين، وبالمؤمنين، { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
   
     واجب علينا عباد الله أن نعود إلى الله وأن نتوب إليه، وأن يتجرد الواحد منا لله، ويقطع علائقه جميعها إلا بالله، عل الله أن يرفع هذا البلاء الذي حل بالأمة، وهذه الأحداث المؤلمة والخطوب الجسيمة، { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ }، فلا ملجأ لنا من الله إلا إلى الله .

الأحد، 28 يوليو 2013

سلسلة الإعلام بأحكام الصيام



الدرس الثاني والعشرون


مسائل وأحكام


المسألة الحادية والخمسون : غبار الطريق : إذا وصل غبار الطريق إلى جوف الصائم فإنه لا يفسد بذلك صيامه إلا إذا قصد وتعمد إدخاله حلقه فسد صومه، ومثله نخالة الدقيق، وذبابة طائرة ونحو ذلك مما يشق الاحتراز عنه؛ قال النووي رحمه الله في المجموع: اتفق أصحابنا على انه لو طارت ذبابة فدخلت جوفه أو وصل إليه غبار الطريق أو غربلة الدقيق بغير تعمد لم يفطر . وقال ابن قدامة رحمه الله في المغني: وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن اتقاء ذلك يشق فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق . انتهى .

المسألة الثانية والخمسون : سيلان الفم دما أو قيحا : إذا خرج من داخل الفم دم أو قيح فإنه يحرم بلعه لنجاسته؛ وبلعه في نهار رمضان اختيارا أو مع عدم مشقة الاحتراز منه مفسد للصوم، موجب للقضاء وهو مذهب الجمهور واختيار ابن عثيمين وعليه فتوى اللجنة الدائمة، وأما إذا دخل إلى الجوف بغير قصد، أو مع مشقة الاحتراز منه فلا شيء فيه كالقيء الذي يغلب صاحبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ ذَرَعَهُ اَلْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ, وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ اَلْقَضَاءُ " .

المسألة الثالثة والخمسون : خروج القلس أو سوائل المعدة (الحموضة) : القلس هو ما خرج من البطن من طعام أو شراب إلى الفم بعد استقراره فيها؛ سواء كان ملء الفم أو دونه؛ إذا خرج إلى الفم ثم رده الصائم وابتلعه مع إمكانه لفظه وإخراجه فسد صومه وعليه القضاء وهو مذهب الجمهور؛ وأما إذا رده إلى جوفه مع عدم تمكنه من إخراجه فلا شيء عليه؛ والسوائل المرتجعة من المعدة (الحموضة) حكمها حكم القلس فالفطر بها متعلق بوصولها إلى الفم ثم ردها بعد ذلك إلى الجوف وبلعها، وأما إذا لم تصل إلى الفم مع عدم التمكن من لفظها وإخراجها فلا يفسد بها الصوم، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: فإن سال فمه دما أو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده (أي ابتلعه) أفطر وإن كان يسيرا، لأن الفم في حكم الظاهر، والأصل حصول الفطر بكل واصل منه؛ لكن عفي عن الريق لعدم إمكان التحرز منه فما عداه يبقى على الأصل . انتهى .

المسألة الرابعة والخمسون : الجماع في نهار رمضان : من جامع متعمدا في نهار رمضان فسد صومه إجماعا؛ وعليه القضاء والكفارة؛ وهو قول جماهير أهل العلم سلفا وخلفا، والمرأة الموطوءة في نهار رمضان يلزمها القضاء والكفارة كذلك وهو قول جمهور أهل العلم خلافا للمعتمد عند الشافعية، فيجب عليها القضاء لأنه فاتها الصوم بلا عذر، ووجوب الكفارة عليها قياسا على الرجل فقد هتكت حرمة رمضان بالجماع؛ فتجب عليها كفارة وعلى الرجل كفارة أخرى لعدم المشاركة في الكفارات .

المسألة الخامسة والخمسون : كفارة الجماع في نهار رمضان : تجب على من حصل منه الجماع متعمدا مختارا ذاكرا في نهار رمضان كفارة مغلظة وهي : عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وهي على الترتيب المذكور عند جمهور أهل العلم؛ لما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ: لاَ - قَالَ - ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا . قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا ! فَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ .

الأحد، 21 يوليو 2013

سلسلة الإعلام بأحكام الصيام



الدرس الحادي والعشرون


مسائل وأحكام


المسألة السادسة والأربعون : مضغ العلك ( اللبان ) : العلك ( اللبان ) المعروف اليوم يحتوي على مواد سكرية في الغالب ونكهات صناعية؛ وهذه المواد والنكهات تتحلل مع اللعاب عند مضغه وتصل إلى الجوف؛ فالعلك بهذا الوصف مفسد للصيام، وأما إذا كان العلك قويا متماسكا عند مضغه لا يتحلل منه أجزاء تصل إلى الجوف؛ أو يتحلل منه أجزاء لكن يلفظها ولا يبلعها فهو مكروه للصائم وهو مذهب جمهور أهل العلم، وينبغي للصائم أن يحتاط لصومه فيصونه عما يفسده؛ ففي الحديث المتفق على صحته:" فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِيْنِهِ وَعِرْضِهِ " .

المسألة السابعة والأربعون : أحمر الشفاه : استعمال أحمر الشفاه أثناء الصيام إذا كان يتحلل منه شيء يصل إلى الجوف مع اللعاب فهو مفسد للصيام، واختاره ابن باز، وأما إذا كان لا يتحلل منه شيء يصل مع اللعاب إلى الجوف؛ أو متى أحست المرأة بطعم شيء منه في فمها لفظته ولم تبلعه فيكره كراهة شديدة؛ قياسا على مسألة العلك ( اللبان ) السابقة؛ فينبغي للمرأة أن تحتاط لصومها فلا تضعه نهارا وإنما تضعه ليلا؛ ووضعها له نهارا ليراه الرجال الأجانب من المنكرات العظيمة يذهب أجر صيامها ويفوت عليها ثمرته؛ فعند البخاري في صحيحه قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ففعلها هذا من جهل الجاهلية نسأل الله العفو والسلامة لنساء المسلمين .

المسألة الثامنة والأربعون : بلع الريق : يجوز للصائم بلع ريقه ولو كثر بغير قصد فبلعه لا يفسد الصوم إجماعا نقله النووي رحمه الله لأنه يشق التحرز منه؛ بخلاف ما إذا جمعه في فمه ثم بلعه فإنه يفسد الصوم وهو قول الجمهور، وكذا إذا أخرجه إلى خارج فمه ثم رده كأن أخرجه إلى الشفة الخارجية ثم رده فإنه يفسد الصوم إذا بلعه، وكذا بلعه لريق غيره يفسد الصوم نقل النووي اتفاق أهل العلم عليه؛ وأما ما جاء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ وَيَمُصُّ لِسَانَهَا . فهو حديث ضعيف ضعفه غير واحد من أهل العلم ومن المعاصرين الألباني، وهو صحيح دون زيادة:" وَيَمُصُّ لِسَانَهَا "، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: وإسناده ضعيف ولو صح فهو محمول على من لم يبتلع ريقه الذي خالط ريقها والله أعلم . انتهى كلامه رحمه الله .

المسألة التاسعة والأربعون : بلع النخامة : النخامة هي النخاعة وزنا ومعنى وهي البلغم الغليظ الذي يحصل للإنسان من الأنف، أو من الصدر، أو من الرأس، غير أن النخاعة يقال لما يخرج من الرأس، والنخامة لما يخرج من الأنف أو الصدر؛ وعلى كل حال بلع النخامة أو النخاعة بعد وصولها إلى الفم مفسد للصوم لأنه لا يشق الاحتراز عنها؛ وهو قول الجمهور، وأما إن كانت في الحلق ولم يتمكن من لفظها فبلعها، أو بلعها مع ريقه من غير قصد فصومه صحيح لأنه يشق الاحتراز عنها، واختار ابن تيمية أن بلعها لا يفسد الصيام؛ ورجحه ابن عثيمين .

المسألة الخمسون : بلع ماء السواك : السواك سنة رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مستحب للصائم وغير الصائم في أي وقت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم:" لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ " وفي رواية:" عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ "، قال البخاري رحمه الله: وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ . وأما بلع الريق بعد السواك فاختار ابن سعدي وابن عثيمين الجواز لأن حكمه حكم الماء المتبقي بعد المضمضة إذ لا يجب على المتوضئ أن يجفف فمه بعد المضمضة؛ وكذلك في الريق بعد السواك، لكن إذا تحلل من السواك شيء في فمه يجب عليه أن يلفظه ويخرجه ولا يبلعه لأنه ببلعه يفسد الصوم، ولذلك كره بعض السلف السواك الرطب، قال الحافظ رحمه الله: أقصى ما يخشى من السواك الرطب أن يتحلل منه في الفم شيء وذلك الشيء كماء المضمضة فإذا قذفه من فيه لا يضره بعد ذلك أن يبتلع ريقه . انتهى كلامه رحمه الله .

الأربعاء، 17 يوليو 2013

سلسلة الإعلام بأحكام الصّيام



الدرس العشرون


مسائل وأحكام


المسألة الحادية والأربعون : استعمال معجون الأسنان : يجوز للصائم استعمال معجون الأسنان لكن ينبغي عليه الاحتراز من وصوله إلى الحلق وذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي واختاره ابن باز وابن عثيمين، فإن نفذ شيء إلى الحلق فسد الصوم .

المسألة الثانية والأربعون : الاكتحال : استعمال الاكتحال للصائم لا بأس به إذا لم يجد طعمه في الحلق؛ فإذا وجد طعمه في الحلق فسد بذلك الصيام وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله، ومذهب الأحناف والشافعية واختيار ابن تيمية رحمه الله وغيره من المحققين أنه لا يفسد الصوم بالاكتحال سواء وصل منه شيء إلى الحلق أو لا، لأنه ليس أكلا ولا شربا ولا في معناهما .

المسألة الثالثة والأربعون : التطيب وشم الروائح : لا حرج على الصائم في التطيب وشم الروائح إذا لم تكن بخورا أو دخانا له جرم يصل إلى الجوف وهو مذهب السادة الأحناف واختيار ابن تيمية وابن باز وابن عثيمين .

المسألة الرابعة والأربعون : ما يدخل في مجرى البول : ما يدخل في إحليل الصائم، والإحليل هو مجرى البول للذكر والأنثى، من مائع أو دهن لا يفسد الصيام عند الجمهور خلافا للشافعية، وكذلك ما يدخل في إحليل الصائم من قسطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة تساعد على وضوح الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة؛ وكذا ما يدخل المهبل من تحاميل ( لبوس )، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي، أو إدخال المنظار أو اللولب ونحو ذلك إلى الرحم، كل ذلك لا يفسد الصوم؛ على ما ذهب إليه الجمهور، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي لأنه لا منفذ بين المسالك البولية وبين الجهاز الهضمي .


المسألة الخامسة والأربعون : مرطب الشفاه والأنف : لا حرج على الصائم في استعمال مرطب الشفاه والأنف الذي يزيل الجفاف؛ مع الاحتراز من أن يصل شيء إلى الجوف عبر الأنف أو الفم؛ فإن وصل منه شيء إلى الجوف فقد فسد الصوم وعليه القضاء، وهو اختيار ابن باز وابن عثيمين .

الثلاثاء، 16 يوليو 2013

سلسلة الإعلام بأحكام الصيام


الدرس التاسع عشر


مسائل وأحكام


المسألة السادسة والثلاثون : الاغتسال للصائم : للصائم أن يغتسل أو يصب الماء على رأسه لأجل الحر أو العطش باتفاق الأئمة الأربعة؛ فعند أحمد في المسند وصححه الألباني: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ بِالْعَرْجِ وَهُوَ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ الْحَرِّ أَوْ الْعَطَشِ .

المسألة السابعة والثلاثون : الأقراص التي توضع تحت اللسان : ما يوضع تحت اللسان من الأقراص لعلاج بعض الأزمات القلبية ونوباته المفاجئة حقيقتها أنها لا يدخل إلى الجوف منها شيء إذا لم يبلع المريض شيئا من المادة الدوائية المتحللة لأنها سرعان ما تمتصها الأوعية الدموية لتنقل عبر الدم إلى القلب؛ وعلى هذا فإنها لا تفسد الصوم بشرط أن لا يبتلع الصائم شيئا مما يتحلل منها؛ وهو اختيار ابن باز وابن عثيمين وقرره مجمع الفقه الإسلامي بالإجماع .

المسألة الثامنة والثلاثون : ذوق الطعام بغير حاجة : يجوز ذوق الطعام عند الحاجة لمعرفة استواء الأكل من غير مبالغة فهو كالمضمضة كما قال ابن تيمية رحمه الله وهو قول جمهور أهل العلم؛ وأما ذوق الطعام بغير حاجة فمكروه باتفاق الأئمة الأربعة؛ لأنه مظنة لوصول شيء من الطعام إلى الجوف من غير شعور به فيتعرض الصوم للفساد .

المسألة التاسعة والثلاثون : القبلة والملامسة وما شابههما للصائم : يباح للصائم القبلة والمباشرة فيما دون الفرج بشرط أن يكون ممن يملك نفسه ففي صحيح مسلم: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ, وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ, وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ . وهو قول جمهور أهل العلم، وأما من تتحرك شهوته بالقبلة وما شابهها ولا يملك نفسه فيخشى من الجماع أو الإنزال فيكره له ذلك باتفاق الأئمة الأربعة فعند أبي داود وصححه الألباني: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ؛ فَرَخَّصَ لَهُ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَسَأَلَهُ؛ فَنَهَاهُ. فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ وَالَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ .

المسالة الأربعون : استعمال السواك للصائم : يباح للصائم أن يستاك في أي وقت قبل الزوال أو بعده؛ وهو مذهب الأحناف واختيار ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، خلافا لمن قال بكراهته للصائم بعد الزوال؛ والصحيح أنه لا يكره لأن الأحاديث في استحباب السواك عامة للصائم وغيره وفي كل وقت؛ فعند البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ " وفي رواية:" عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ "، قال البخاري رحمه الله: وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ .

الأحد، 14 يوليو 2013

سلسلة الإعلام بأحكام الصّيام


الدرس الثامن عشر


مسائل وأحكام


المسألة الحادية الثلاثون : بخاخ الربو : استعمال بخاخ الربو في نهار رمضان لا يفسد الصوم لأن الرذاذ الذي ينفثه عبارة عن هواء وليس هو أكلا ولا شربا ولا في معناهما؛ وهو اختيار جمهور العلماء المعاصرين، ومن أهل العلم من قال بأنه مفسد للصوم .

المسألة الثانية والثلاثون : الغسيل الكلوي : غسيل الكلى لا يخلو من وصول مفطّر إلى الجوف فهو تزويد للجسم بالدم النقي وقد يصاحبه مواد غذائية أخرى لذا فتوى اللجنة الدائمة أنه مفسد للصيام وهو اختيار ابن باز وابن عثيمين .

المسألة الثالثة والثلاثون : غاز الأكسجين : استعماله في التنفس لا يفسد به الصوم؛ لأنه مجرد غاز يدخل إلى الجهاز التنفسي فهو كالهواء الذي يتم استنشاقه؛ وهذا ما قرره المجمع الفقهي، فالهواء الذي يتنفس لم يقل أحد بأن تنفسه يفسد الصوم.

المسألة الرابعة والثلاثون : التحاميل : استعمال التحاميل في نهار رمضان القول فيها كالقول في الحقنة الشرجية فعلى مقتضى مذهب الجمهور أنها مفسدة للصوم لأنها أشبهت الأكل في وصولها إلى الجوف، وعلى مقتضى مذهب أهل الظاهر وجماعة من المالكية أنها لا تفسد الصوم لأنها ليست بأكل ولا شرب، ولا في معناهما، وهو اختيار ابن عثيمين .

المسألة الخامسة والثلاثون : المضمضة والاستنشاق : المضمضة والاستنشاق من سنن الوضوء غير أن الصائم يكره له المبالغة فيهما إجماعا؛ ففي الحديث الذي يرويه أحمد في المسند وصححه الألباني قال صلى الله عليه وسلم:" إِذَا اسْتَنْشَقْتَ فَبَالِغْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا "، فالمضمضة والاستنشاق للصائم من غير مبالغة مباحة في الوضوء وغيره إجماعا، فالصائم الذي جف ريقه ويبس فمه وأراد المضمضة بالماء لترطيب فمه يباح له ذلك من غير مبالغة .

السبت، 13 يوليو 2013

سلسلة الإعلام بأحكام الصّيام



الدرس السابع عشر



مسائل وأحكام



المسألة السادسة والعشرون : الحجامة : اختلف العلماء فيمن احتجم وهو صائم؛ فمذهب جمهور أهل العلم على أن صومه صحيح لا يفسد، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، وذهب الحنابلة إلى أن الحجامة تفسد الصوم؛ وهو مفردات مذهبهم، واختاره ابن تيمية وابن القيم؛ دليلهم ما جاء عند أحمد في المسند وغيره وصححه الألباني والأرنؤوط أنه صلى الله عليه وسلم قال:" أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ "، وتأجيل الحجامة إلى الليل أفضل خروجا من الخلاف .

المسألة السابعة والعشرون : الفصد ودم التحليل أو التبرع : الفصد وأخذ الدم للتحليل أو التبرع من الصائم اختلف أهل العلم في إفساده للصوم اختلافهم في الحجامة؛ فمن أهل العلم من قال بعدم إفساده للصوم بناء على مذهب الجمهور في عدم الإفساد بالحجامة، ومن أهل العلم من قال بإفساده للصوم كالحجامة وهو اختيار ابن تيمية، وفرق ابن عثيمين بين دم التبرع ودم التحليل بأن دم التبرع له حكم الحجامة من الفطر به لتأثيره في البدن كتأثير الحجامة لكثرته، وابن باز اختار أن الأحوط تأجيله إلى الليل، وأما دم التحليل فهو ليس في معنى الحجامة ليسره؛ لذلك اختار ابن عثيمين بأن لا يفسد به الصوم وهو اختيار شيخه ابن باز .

المسألة الثامنة والعشرون : الحقنة الشرجية : وما هي يحقن ليستفرغ به ما في البدن ومثلها التحاميل اليوم اختلف في حكمها للصائم، فمذهب الأئمة الأربعة أنها مفسدة للصوم لأنها تصل إلى الجوف فأشبهت الأكل، وذهب أهل الظاهر وهو اختيار ابن عبد البر وابن تيمية ومجمع الفقه الإسلامي إلى أنها لا تفسد الصوم لأنها لا تغذي وليس فيها ما ينفذ إلى الجوف فليس لها حكم الأكل، ولم يأت بيان من الشارع أنها من مفسدات الصيام؛ واختار ابن باز رحمه الله إلى أن تأخيرها إلى الليل أفضل خروجا من الخلاف .

المسألة التاسعة والعشرون : الإبر العلاجية : استعمال الإبر غير المغذية في العضلات أو الوريد أو تحت الجلد لا يفسد الصوم لأنها ليست أكلا ولا شربا، ولا في معناهما، وهو من قرارات مجمع الفقه الإسلامي وفتاوى اللجنة الدائمة واختيار ابن باز وابن عثيمين، وأما الإبر المغذية التي يستغنى بها عن الأكل والشرب فهي عندهم مفطرة مفسدة للصوم لأنها في معنى الأكل والشرب .

المسألة الثلاثون : القطرة : استعمال القطرة في نهار رمضان له ثلاثة أحوال: استعمالها في الأنف أو ما يسمى السعوط وهو دواء يوضع في الأنف مفسد للصوم باتفاق مذاهب الأئمة الأربعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" بَالِغْ فِيْ الاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَن تَكُونَ صَائِماً "، فالأنف منفذ مفتوح إلى المعدة. والحالة الثانية استعمال القطرة في العين مفسد للصوم إذا وصل طعمها إلى الحلق عند المالكية والحنابلة، ومذهب الأحناف والشافعية واختيار ابن حزم وابن تيمية وابن باز وابن عثيمين أنها لا تفسد الصيام، وهي فتوى اللجنة الدائمة؛ فالعين عندهم ليست بمنفذ مفتوح إلى الجوف . والحالة الثالثة استعمال القطرة في الأذن وهي مفسدة للصوم إذا وجد طعمها في الحلق عند الجمهور، جاء في قرار " مجمع الفقه الإسلامي " :" الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات : قطرة العين ، أو قطرة الأذن ، أو غسول الأذن ، أو قطرة الأنف ، أو بخاخ الأنف ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق " انتهى . واختار ابن حزم وابن باز وابن عثيمين أنها غير مفسدة للصوم؛ وهي عندهم كالعين ليست بمنفذ مفتوح إلى الجوف .

سلسلة الإعلام بأحكام الصيّام



الدرس السادس عشر


مسائل وأحكام





المسألة الحادية والعشرون : بلع ما بين الأسنان من الطعام : الطعام اليسير الذي يكون بين الأسنان إذا بلعه الصائم وكان لا يمكنه لفظه وإخراجه من فمه لجريانه مع الريق فصومه صحيح لمشقة الاحتراز منه؛ وقد حكى الإجماع ابن المنذر على ذلك، وأما إذا أمكنه لفظه وإخراجه فابتلعه فإنه يفطر بذلك لأنه صار في حكم الأكل الذي يؤكل قصدا واختيارا؛ وهو قول جماهير أهل العلم. 

المسألة الثانية والعشرون : ابتلاع ما لا يؤكل في العادة : إذا بلع الصائم شيئا مما لا يؤكل في العادة كحصاة وخيط، وورقة، وغير ذلك فإنه يفطر به؛ لأنه في حكم الأكل؛ وهو قول جماهير أهل العلم .

المسألة الثالثة والعشرون : شرب الدخان : شرب الدخان أثناء نهار رمضان مفطر يفسد به الصوم باتفاق الفقهاء، لأن للدخان جرم يصل إلى الجوف؛ ووصول عين إلى الجوف من مفسدات الصيام ومبطلاته؛ وينبغي على من ابتلي بهذا البلاء الإقلاع عنه تقربا لله عز وجل فهو من الخبائث التي جاءت الشريعة بتحريمها؛ فضلا عما فيه من الضرر؛ قال سبحانه:{ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }، ومن أعظم ما يعين على الإقلاع عن هذه المصيبة هذا الشهر الكريم؛ الذي قد يمسك فيه الإنسان ما يزيد على نصف اليوم؛ وفقنا الله لما يحب ويرضى، وهدانا لما فيه نفعنا في الدنيا والآخرة .

المسألة الرابعة والعشرون : الاحتلام في نهار رمضان : إذا احتلم الصائم في منامه في نهار رمضان فصومه صحيح؛ إجماعا .

المسألة الخامسة والعشرون : خروج المذي في نهار رمضان : المذي سائل أبيض لزج يخرج عند التفكير في الجماع أو إرادته فإذا خرج من الصائم فإنه لا يفسد الصوم وهو مذهب الشافعية واختيار ابن عثيمين رحمه الله .