نِـــــعْمَــــــةُ الــــــدُّمُـــــــوعِ
من رحمة الله بعباده أن أجرى مــــــآقيهم بالدمـــــــع، فالدمــوع من
نعم الله العظيمة على عباده، فهي غسول للعينين عند تأذيهما بشعرة أو غبار أو نحو ذلك، وبالدموع يعبر عن
مكنونات النفوس سرورا وفرحا، أو حزنا وترحا، فتحل محل الحروف والكلمات، وتكون بدلا عن
الجمل والعبارات، إنها الدموع .!! وصدق علي رضي الله عنه حين قــــال: ما دمعت عيــن إلا
ووراءها قلــــب .
إنها الدمـــــوع .. !! تسيل الدموع عند موت حبيب أو قريب، وما أجمل قول الأعور السلمي حين سالت دموع عينيه لفقد ابنه:
إنها الدمـــــوع .. !! تسيل الدموع عند موت حبيب أو قريب، وما أجمل قول الأعور السلمي حين سالت دموع عينيه لفقد ابنه:
بَكَيْتُ بِعَينٍ لَيسَ فِيهَا غَضَاضَةٌ *** وَعَيـنٌ
بِهَـا رَيبٌ مِـنَ الحَدَثَــانِ
عَذِيرُكِ يَا عَينِي الصَّحِيحَةُ بِالبُكَا *** فَمَـا
لَـكِ يَـا عَــورَاءُ وَالهَمَـلَانِ
إنها دموع الأتراح والأحزان لكن دون جزع ولا تسخط، بل مع
التسليم بالقدر، والرضا بالقضاء، فلله ما أخذ، وله ما أعطى، وقد جرت دموع سيد
الخلق صلى الله عليه وسلم لموت ابنه إبراهيم فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت تبكي
يا رسول الله ؟ فقال له صلى الله عليه وسلم:" يَا ابْنَ عَوفٍ إِنَّهَا
رَحْمَةٌ" ثم قال:" إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ
يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرضى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ، يَا
إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ " .
تسيل الدموع عند فراق الأهل والإخوان، ووداع الأصحاب
والخلان:
بَكَتْ عَينِي غَـدَاةَ البَينِ دَمْعـاً *** وَأُخْـرَى
بِالبُــكَا بَخِلَتْ عَلَينَا
فَعَـاقَبْتُ الَّتِي بِالدَّمْـعِ ضَـنَّتْ *** بَـأَنْ
أَغْمَضْتُهَـا يَـومَ الْتَقَينَــا
هذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يزوران أم أيمن رضي
الله عنها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها:
ما يبكيك ؟ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه و سلم . فقالت: والله ما
أبكي ألا أكون أعلم ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه و سلم، ولكن أبكي أن
الوحي انقطع من السماء . فهَيَّجَتْهُما على البكاء؛ فجعلا يبكيان، بكوا جميعا
لفراق الوحي وانقطاعه .
تسيل الدموع فرحا بقدوم غائب، وتفريج كرب وشدة، وانكشاف
بلاء ومحنة، والبشر بما يفرح ويسر، قد يغمر الإنسان السرور والفرح فلا يستطيع أن
يعبر عن ذلك بابتسامة ولا ضحكة وإنما تنهمر منه الدمعات، وتخنقه العبرات، فهذا أبو
بكر رضي الله عنه لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أذن له في الهجرة،
قال: الصحبة يا رسول الله ؟ بأبي أنت أمي ! .. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:" نَعَمْ "، فبكى أبو بكر رضي الله عنه سرورا وفرحا، قالت عائشة رضي الله عنها: فرأيت أبا بكر يبكي،
وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي . ولله در القائل:
وَرَدَ الكِتَـــــــــابُ مِـنَ الحَبَيبِ بِأَنَّـهُ ***
سَيَـزُورُنِي فَاسْتَعْبـَـرَتْ أَجْفَــــانِي
طَفِــحَ السُّــــرُورُ عَلَيَّ حَـتَّى أَنَّنِي ***
مِنْ فَـرْطِ مَا قَـدْ سَـرَّنِيْ أَبْكَـانِيْ
يَا عَينُ صَارَ الدَّمْعُ عِنْدَكِ عَادَةً ***
تَبْكِينَ مِـنْ فَــرَحٍ وَمِنْ أَحْــزَانِ
أبي بن كعب رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه
وسلم:" إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيكَ {لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال أبي رضي الله عنه: وَسَمَّانِي. قال صلى الله عليه
وسلم:" نَعَمْ"، فبكى رضي الله عنه فرحا بما منَّ الله عليه به
من الثناء عليه في الملأ الأعلى.
تسيل الدموع لجفاء صديق، وظلم ظالم، وافتراء مفتر فهذه
عائشة العفيفة الطاهرة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، في لما تكلم
في عرضها ورميت بما هي منه براء براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب عليهما السلام
سالت دموعها من هذه الفرية العظيمة، تقول رضي الله عنها محدثة عن حالها وجريان
دمعها: وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع، يظنان أبواي أن
البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي ـ أي أبواها رضي الله عنهما ـ
وأنا أبكي؛ فاستأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي . إنها
الدموع حين تعجز الألسنة عن الكلام، وتخرس عن النطق تجري لتخط عبارات يعجز اللسان
عن التعبير بمثلها، فحمدا لك يا رب على نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة .
إن أجل الدموع، وأفضل الدموع، وأجمل الدموع، هي تلك
الدموع التي تسيل وتنهمر خشية لله وتعظيما، إنها تلك الدموع التي إذا وقف صاحبها
أمام جلال الله سبحانه انهمرت، وإذا تذكر عظمة الله عيناه بها اغرورقت، فعينان لا
تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، ومن السبعة
الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، فهنيئا لمن سال دمعه من خشية مولاه، ويا سعادة من ذرف دمعه تعظيما لله .
تدمع العين توبة وإنابة لله اعترافا بالذنب وإقرارا بالخطأ، وتدمع العين تأثراً بالقرآن كلام الله، فهو الحق والداعي إلى الحق، تدمع العين تأثرا عند سماعه، وتقبل الجوارح والأركان على أخذه بقوة علما وعملا:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}[المائدة:83ــ84]، وتدمع العين حسرة وأسفا وكمدا وألما عند عجز المسلم الصادق المخلص عن النفقة والبذل والعطاء في سبيل الله لإعلاء كلمة ونصرة لدين الله، ولذا ذكر الله سبحانه عذر من هذا شأنه في كتابه الكريم، فقال سبحانه:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}[التوبة:92] .
جعلنا الله من أهل خشيته وتقواه، وممن وسعتهم رحمته
ورضاه .
0 التعليقات:
إرسال تعليق
علّق هنا