الجمعة، 3 أغسطس 2012

حقيقة الالتزام


حَقِيْقَةُ الالْتِزَامِ


فِيْ ظِلَالِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ 




معنى الالتزام لغة :

      " الالتزام : الاعتناق "، وهو من:" لزِمَ الشيءَ يَلْزَمُه لَزْماً ولُزوماً ولازَمه مُلازَمَةً ولِزاماً والتزَمَه وأَلزمَه إِيَّاه فالتزَمَه، ورجل لُزَمَةٌ يَلْزَم الشيء فلا يفارِقه ".(لسان العرب) وفى المعجم الوجيز:" لزِمَ لُزُما: ثبت ودام، لزم الشيء فلاناً: وجب عليه. لزم العمل: داوم عليه. ألزم الشيء : أثبته وأدامه لازمه ملازمة، لِزَما: داوم عليه. التزم الشيء أو الأمر : أوجبه على نفسه. اللِّزام : الملازم جدا، وفى القرآن : ﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾[الفرقان:77]، اللُّزَمَة : من يلزم الشيء فلا يفارقه " .


الالتزام أم الاستقامة:

     أي اللفظين أحق بالاستخدام ؟ ذكر آنفا معنى الالتزام وأنه بمعنى الاعتناق، أو التزام الأمر والمداومة عليه، ونتعرف الآن على معنى الاستقامة: جاء في اللسان:" والاسْتِقامةُ: الاعْتدالُ، يقال: اسْتَقامَ له الأَمر. وقوله تعالـى:﴿ فاسْتَقِـيمُوا إِلـيه ﴾[فصلت الآية:6]، أَي فـي التَّوَجّه إِلـيه دون الآلهةِ، وقام الشيءُ واسْتقامَ: اعْتَدَل واستوى. وقوله تعالـى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾[فصلت:30]، معنى قوله: اسْتَقامُوا، عملوا بطاعته ولَزِموا سُنة نبـيه صلى الله عليه وسلم, وقال قتادة: استقاموا علـى طاعة الله. إذا الاستقامة هي الاعتدال والاستواء على الشيء، والمراد: استقام على صراط الله، لأن كل صراط سوى صراط الله فهو غير مستقيم . أما لفظ الالتزام فهو الاعتناق ولزوم الأمر والمداومة عليه، وهذا يصدق في صراط الله، ويصدق في غيره من الصُّرُط المنحرفة . فيتبين من هذا أن لفظي الالتزام والاستقامة بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل استقامة التزام وليس كل التزام استقامة، وعلى هذا فالأفضل التقيد باللفظ الشرعي، فيقال: فلان استقام فهو مستقيم . وأما التزم فهو ملتزم، لفظ عرفي، والحقائق الشرعية مقدمة على الحقائق العرفية، فالأصل أنَّ الحقيقة العرفية تخصيص للحقيقة اللغوية، فهي أضيق منها لأن اللغوية عامة، والحقيقة الشرعية أسباب زائدة لأنها مصطلحات خاصة بالدين الإسلامي، فيها زيادة عن الحقيقة العرفية، قد تكون تخصيصاً لها، وقد تكون رجوعا إلى أصل المعنى اللغوي وتكون أوسع منها . والله أعلم .


            من المعلوم أن لفظة التزام جاء ما يدل عليها في الشرع الحنيف فمن ذلك: أن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال: أصبحت يا رسول الله ! مؤمنا حقا . قال: يا حارثة ! إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك ؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى ربي عز وجل على عرشه بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتنعمون، وأهل النار في النار يعذبون، فقال له: يا حارثة ! عرفت فالزم . ثم قال: من أحب أن ينظر إلى عبد قد نور الإيمان في قلبه فلينظر إلى حارثة . ضعفه الألباني، وقوله صلى الله عليه وسلم: " الزم بيتك  " صحح الألباني. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الزم رجلها – أي الوالدة - فثم الجنة " حسنه الألباني، وكذلك استخدمها الصحابة رضوان الله عليهم كما في قول أبي بكر رضي الله عنه: يا عمر الزم غرزه - أمره - فإني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. صححه الألباني . وقول أبي هريرة رضي الله عنه: وكنت امرءاً مسكينا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني .متفق عليه. ومن أقوال السلف قول الفضيل بن عياض رحمه الله: " الزم طرق الهدي ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين ". هذه الآثار جملة وغيرها كلها تبين أن لفظة الالتزام جاءت مقيدة، وهي تؤكد عمومها اللغوي، وأنها إذا استخدمت تستخدم مقيدة، وأما إطلاقها بحيث يقال: التزام وملتزم فلم يرد، ثم إن اللفظ الذي استخدم في الشرع للدلالة على الاستسلام الكامل لله سبحانه ظاهرا وباطنا، والتزام الأمر والنهي هو لفظ الاستقامة حقيقة، قال سبحانه:﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾[هود:112]، وجاء الأمر بالاعتصام في قوله سبحانه: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾[آل عمران:103]، وأخبر سبحانه أن الاعتصام طريق إلى الاستقامة: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾[النساء:175]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾[آل عمران:101]، وجاء الأمر بالاستمساك في قوله:﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ﴾[الزخرف:43]، وجاء الثناء على أهل التمسك بالوحي في قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾[الأعرف:170]، وجاءت الإشارة إلى أن الاستمساك بالوحي من معالم الاستقامة في قوله: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾[لقمان:22]، وجاء الإخبار بأن الاستمساك بالوحي ( الاستمساك المستلزم للعلم والعمل ) هو عين الاستقامة في قوله سبحانه:﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾[الزخرف:43]، والتمسك والاعتصام بمعنى واحد قال صلى الله عليه وسلم:" تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله " حسنه الألباني، وكل ذلك يدل على أن لفظ الاستقامة له دلالات عظيمة، من هذه الدلالات: أنه لا يقال مستقيم إلا لمن سلك صراط الله، فلا استقامة لصراط غير صراط الله فهي محصورة فيه قال سبحانه: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾[الأنعام:153]، وقال سبحانه في أم الكتاب:﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾[الفاتحة:5-6]، ومنها: أن لفظة مستقيم فيها معنى القناعة والرضا، والإذعان والانقياد طوعا، ولا يلزم وجود ذلك في لفظة التزام، ومنها: أن لفظة استقامة تعني الاعتدال والاستواء على الشيء، بمعنى أن المستقيم حقيقته الامتثال والعمل، وأما الالتزام الذي هو بمعنى الاعتناق، والتزام الشيء وإيجابه لا يلزم منه أن كل من التزم شيئا وأوجبه على نفسه يكون امتثاله والعمل به والقيام به على وجه ما ألزم نفسه به، وهذا بخلاف الاستقامة، ومنها: أن الاستقامة فيها معنى تلازم الظاهر بالباطن بخلاف الالتزام، قال صلى الله عليه وسلم:" لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، و لا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، و لا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه  ومن الدلالات: أن لفظة الاستقامة يقابلها لفظة الانحراف، ففلان مستقيم وفلان منحرف، بخلاف لفظة التزام، فيا ترى هل يقال غير ملتزم ؟ وفي حق من هذا يطلق ؟ في حق الفاسق !! إذا أطلق في حق الفاسق ( غير ملتزم ) يكون في ذلك شيء من التهوين في الاستقامة والتمسك بالدين، ولا يكون لكلمة ( غير ملتزم ) من الوقع والتأثير ما يكون لكلمة ( فاسق ) وهكذا.ومنها: أن لفظة الاستقامة جاء الأمر بها مطلقا في النصوص، فمن ذلك قوله تعالى:﴿ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾[فصلت:6]، وقوله صلى الله عليه وسلم لسفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه: " قل آمنت بالله ثم استقم " ، وأثنى الله على أصحاب الاستقامة فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ  أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[الأحقاف:13ـ14]، ومنها: أن لفظ الالتزام مشعر بالتصنيف ولذا يدور بأذهان البعض أن مهمة الدعوة ونشر الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مهمة من يطلق عليهم ملتزمين، ولا يتعلق ذلك بغيرهم، ويدور بأذهان آخرين أن الالتزام فيه شيء من الكلفة فهي لفظة غير محببة لنفوسهم، وتأباها عقولهم، بخلاف لفظة الاستقامة من ذا الذي لا يجد لقبولها صدى في نفسه ؟ ولقولها طعما في لسانه، ولحلاوتها حبا في قلبه .

     مما سبق ذكره يتبين أن الأفضل والأرجح لزوم لفظ الاستقامة وعدم العدول عنه إلى غيره، ولماذا ينساق أصحاب الرسالة خلف الألفاظ العرفية أو اللغوية مع وجود الألفاظ الشرعية، التي نوقن قطعا أن للشارع الحكيم حكمة في اختيارها، والله تعالى أعلم .


مفهوم الاستقامة :

    إن الاستقامة الحقيقية ما هي إلا تحقيق لمعنى الإسلام الذي ندين لله به ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾[البقرة :208] . الاستسلام الكامل لله في كل شئون الحياة، فيجدنا حيث أمرنا ولا يرانا حيث نهانا . تحقيقا لقول الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾[الأنعام:162-163]، تحقيقا للغاية التي خلقنا لأجلها: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾[الذاريات:56]. الاستقامة بالمفهوم الشامل هي: الاستسلام الكامل لأمر الله سبحانه ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾[الأحزاب:36]، قال عمر رضي الله عنه عن الاستقامة : أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب ..


آثار وثمار الاستقامة :

 الثبات على الإيمان:

     إن الإيمان هو أساس الاستقامة،قال الله سبحانه : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾[فصلت:30]، أي أنهم آمنوا ، ووحدوا الله ، ثم استقاموا ، لم يحيدوا ويخرجوا عن طاعة الله ، بل التزموا طاعة الله سبحانه وتعالى، وفي صحيح مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك . فقال له صلى الله عليه وسلم: " قل آمنت بالله ثم استقم " . والعلاقة بين الإيمان والاستقامة علاقة قوية، فهو أساسها ولا استقامة لمن لا إيمان له . 
 2ـ الجزاء والأجر العظيم :

عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استقيموا ولن تحصوا " . قال الدمياطي في المتجر الرابح أي : لن تحصوا ما لكم عند الله من الأجر والثواب إن استقمتم اهـ . ولا شك أن من هذا الأجر: تنزل الملائكة عند الموت مبشرة - عدم الخوف - عدم الحزن – وخاتمة الجزاء الجنة دار النعيم المقيم؛ قال الله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾[فصلت:30]، قال السعدي رحمه الله: أي اعترفوا ونطقوا ، ورضوا بربوبية الله تعالى ، واستسلموا لأمره ، ثم استقاموا على الصراط المستقيم علما ، وعملا ، فلهم البشرى في الحياة الدنيا ، وفي الآخرة .اهـ وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ  أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[الأحقاف:13-14] .

3ـ العمل الصالح وآثاره:

إن جميع الأعمال الصالحة من أركان وواجبات، وفروض ومسنونات ونحو ذلك، التي يفعلها المتبع طريق الاستقامة،هي ثمرة من ثمار الاستقامة، فالاستقامة هي الباعث على فعلها، والمداومة على ذلك، وكل عمل من هذه الأعمال الصالحة له أثر بل آثار على حياة المسلم،فالاستقامة:هي منتهى العمل.قاله البيضاوي رحمه الله، والعمل الصالح هو أثر عمل الاستقامة، ويأتي بعد الإيمان، قال الله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾[فصلت:8].قال السعدي رحمه الله:إن الذين آمنوا بهذا الكتاب وما اشتمل عليه مما دعا من الإيمان، وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة الجامعة للإخلاص والمتابعة، لهم أجر عظيم .اهـ

4ـ سعة الرزق:

  قال الله تعالى:﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾[الجن :16]،قال البغوي: لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا،وأعطيناهم مالا كثيرا رغدا،وضرب الماء الغدق مثلا؛ لأن الخير والرزق كله في المطر اهـ .


أسباب ضعف الاستقامة :

1ـ ضعف الإيمان :

إن الإيمان بالله سبحانه إذا خالط بشاشته القلب كان النواة الأولى والركيزة العظمى التي ينطلق منها المرء في سائر  أموره العلمية والعملية، فهو أس الاستقامة وأساسها، وضعفه دليل على ضعفها، قال الله : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾[يونس:9] .

2ـ عدم الجدية في أخذ الدين .

 فالإنسان إذا دخل في هذا الدين هوى وهواية، أو نتيجة تربية أسرية قائمة على الطبيعية والروتينية، تربى في أسرة مسلمة فنشأ مسلما، مؤديا لشعائر الإسلام التعبدية على نمط روتيني، لم تتمحص نيته وتخلص وتصفى على جمار الإخلاص، لا يستحضر عظمة المعبود الحق سبحانه حال أدائه العبادة له، إن هذا من أكبر الأسباب المؤدية إلى ضعف الالتزام، بل ربما زواله بالكلية، فالدخول في الدين لا بد أن يكون بجدية، وأخذه لا بد أن يكون بقوة، قال الله سبحانه: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾[مريم:12]، قال السعدي رحمه الله: أمره الله أن يأخذ الكتاب بقوة، أي: بجد واجتهاد، وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه، وفهم معانيه، والعمل بأوامره ونواهيه، هذا تمام أخذ الكتاب بقوة اهـ إن الله سبحانه أمرنا بالجدية في الإسلام فقال : ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾[الطارق:13-14]، فالأمر ليس هزلًا.    

3ـ ضعف العلم الشرعي :

إن الإيمان سبب لتحريك الدافع وتقوية الوازع في القلب، وكذا العلم الشرعي لا بد منه في تصحيح العبادة والتوجه لله وحده، حتى السائر إلى الله سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأجل العلم العلم بالله سبحانه المورث للخشية،قال الله سبحانه:﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾[فاطر :28]،قال الحسن البصري رحمه الله: العلم علمان:علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع،وعلم اللسان حجة الله على عباده.  

4ـ الاعتناء بالظاهر ونسيان الباطن:

 إن الاهتمام بالظواهر والشكليات، ونسيان البواطن والمخبآت، من أجل أسباب ضعف الاستقامة فالدين لا ينحصر في إعفاء اللحية، وتقصير الثوب، ولبس النقاب، بل هذه من شعائر الإسلام التي ينبغي أن نلتزم بها، وهي علامة على الاستقامة، ولكن ينبغي أن يكون الباعث عليها حياة القلب، فصلاح الظاهر ملزوم بصلاح الباطن، ولازم له، وفي الحديث: " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " . 
 5ـ الترف والتعلق بالدنيا:

   وهو مفسد أي مفسد إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا، وهو سبب للطغيان ونسيان الرجوع إلى الله،قال الله: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾[العلق:6-8]، وفي الحديث: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " قال بعض السلف: إن الغنى قد يسهل اللهو ويفتح بابه، وإذا انفتح باب اللهو سد باب النور والمعرفة، فلذائذ الحياة وكثرتها تطمس نور القلب، وتعمي البصيرة، وتذهب بنعمة الإدراك . والمؤمن يسأل ربه أن يعطيه ما يكفيه، ويعافيه مما يطغيه .

6ـ الغرور والإعجاب بالنفس :

   إن الغرور والعجب هو الذي هوى بإبليس بعد أن كان مع الملائكة، والسائر على طريق الاستقامة يجب عليه ألا يغتر بصلاحه وعمله ففي الحديث عند البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا" . فالحذر الحذر من الغرور والعجب والامتنان بالعمل .

7ـ الصحبة والمجالسة :

 في الحديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". فالصاحب ساحب، وفي القرآن جاء النهي عن مجلسة أهل المنكر قال الله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾[الأنعام:68].

8ـ التعلق بالشهوات :
 إن التعلق بالشهوات سبب من أسباب ضعف الاستقامة بل قد يكون عائقا من عوائقها، فالنفس إذا تعلقت بالشهوة أصبحت أسيرة لها، فلا بد للسائر في سبيل الاستقامة من المجاهدة لتتخلى النفس عن علائق الشهوات، وحينها يسلم وينجو " فالجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات " كما صح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم .

مقومات الاستقامة وركائزها :

1ـ إخلاص النية لله سبحانه، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

2ـ الإيمان بالله وبذل الجهد في زيادته .

3ـ الحب في الله والبغض لله .                   

4ـ العبادة .

5ـ العلم الذي هو شرط في صحة العمل .

6ـ الحفاظ على الوقت فهو رأس مال المسلم .

7ـ الاهتمام بكتاب الله تعلما وتعليما، تدبرا وفهما، تطبيقا وعملا .

8ـ التلازم بين الظاهر والباطن .


معالم ومظاهر الاستقامة :ـ

1ـ المحافظة على الفرائض والإكثار من النوافل.

2ـ الاهتمام بمجالس العلم والخير .

3ـ حسن الخلق .

4ـ مجالسة الصالحين وصحبتهم .

5ـ البعد عن مواطن الشبهات، ومجالس الشهوات .

6ـ الاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم .

7ـ الإحسان في معاملة الخلق، ومن أجل ذلك بر الوالدين، وصلة الرحم، و معرفة لأهل العلم والفضل حقهم ونحو ذلك . 

8ـ عدم تعدي الحدود وانتهاك الحرمات .     

9ـ التسليم لله في قضائه وقدره .

10ـ الالتزام بالهدي الظاهر والمحافظة عليه .

11ـ الدعوة إلى الله على بصيرة .

12ـ تعلم القرآن وتعليمه .

13ـ الحرص على التفقه في الدين .

14ـ بذل النصيحة للغير وتقبلها منهم .


بواعث الاستقامة والاستمرار عليها:

1ـ العلم بالله عن طريق العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.  

2ـ مراقبة الله في السر والعلن .           

3ـ محاسبة النفس وإخلاص النصح لها .

4ـ مخالفة النفس والهوى أول طريق الاستقامة والهدى .

5ـ الإكثار من الطاعات والمداومة عليها، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

6ـ المحافظة على ذكر الله والأوراد كأذكار الصباح والمساء ونحوها  .

7ـ مطالعة آلاء الله ونعمه .

8ـ الدعوة إلى الله .

9ـ القراءة في كتب الرقائق والزهد والسير .

10ـ سماع المفيد النافع من المحاضرات والمواعظ .

11ـ الخوف من سوء الخاتمة .

12ـ الدعاء .

13ـ التناصح .

14ـ الاستعانة بالله سبحانه .

15ـ عدم الاغترار بالعمل .

17ـ المداومة على قراءة ورد محدد من القرآن الكريم .

18ـ مجالسة الصالحين وأهل الخير .

19ـ المحافظة على فعل السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

20ـ المحافظة على قيام الليل .


أثر الاستقامة في الواقع:

      إذا وجدت الاستقامة الحقة عند عموم المسلمين يولد حينها الجيل المنشود الذي به تتحرر المعمورة من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويسودها عدل الإسلام، وتقوم خلافة الله فيها، خلافة على ميراث النبوة، وهذا الجيل لا بد أن يكون أفراده تنتابهم  الفترة بين الفينة والأخرى، فلكل عمل شرة، لكنهم إذا غفلوا انتبهوا، وإذا رقدوا استيقظوا، و:﴿ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾[الأعراف:201]، " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " ، " ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم آخرين يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم "، لكن ذلك لا يكون إلا على قدم التغيير:﴿  إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ  ﴾[الرعد:11]، ولا يثبت إلا على ساق القيام لله مثنى وفرادى: ﴿  قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ﴾[فاطر:46]، وهذه سنة لا تتغير، وحقيقة لا تتبدل .


جعلنا الله من أهل الاستقامة على صراطه، حيـاة ومماتـا

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

 والحمد لله رب العالمين